لحج – المحتوى – خاص
كشف تحقيق حديث صادر عن مركز سوث24 للأخبار والدراسات عن مسؤولية بيئية محتملة لمصنع “الوطنية للأسمنت” التابع لمجموعة هائل سعيد أنعم التجارية في محافظة لحج، جنوب اليمن، بعد توثيق إصابات بشرية جماعية وأضرار بيئية واسعة النطاق يُشتبه بأنها ناتجة عن الانبعاثات المنبعثة من محطة الفحم الحجري التي يعتمد عليها المصنع في التشغيل.
التحقيق، الذي أعده الصحفي مختار شعتل على مدى أكثر من خمسة أشهر، تضمن شهادات حصرية، وثائق طبية، تقارير ميدانية، ودراسات أكاديمية، تشير إلى أن مناطق واسعة من مديريتي المسيمير والملاح تشهد تصاعدًا في معدلات الإصابة بالسرطان، وأمراض الجهاز التنفسي، والفشل الكلوي، والتشوهات الخلقية، وسط غياب واضح للرقابة الحكومية على أنشطة المصنع.
من بين الحالات الموثقة، الطفلة شيماء فؤاد أحمد، البالغة من العمر أربع سنوات، التي تخضع لجلسات كيماوية دورية بمستشفى الصداقة في عدن بعد إصابتها بورم خبيث أسفل العمود الفقري. والد الطفلة يؤكد أن أدخنة المصنع هي السبب الوحيد المحتمل، إذ لا توجد مصادر تلوث أخرى في المنطقة.
تقرير محلي أعدته لجنة مجتمعية في المسيمير برئاسة مدرس متقاعد وثّق 159 حالة مرضية خلال عام 2021، بينها 52 وفاة، بينما لا تزال 107 حالة تعاني من أمراض مزمنة حتى الآن. وتنوعت الأمراض بين الربو، تليف الكبد، سرطانات الدم والغدد، الفشل الكلوي، وضمور العضلات.
تُظهر بيانات رسمية صادرة عن مكتب الصحة في مديرية الملاح تسجيل أكثر من 29,000 إصابة تنفسية بين عامي 2010 و2018، إلى جانب 37 وفاة نتيجة السرطان. كما أفاد أطباء محليون لـ”سوث24″ بأن الوحدة الصحية في الملاح تستقبل ما بين 40 إلى 50 حالة يوميًا، نصفها تقريبًا يعاني من أمراض تنفسية مرتبطة غالبًا بنوعية الهواء في المنطقة.
دراسة بيئية مستقلة صادرة عام 2021 عن جامعة عدن بعنوان “التقييم البيئي لمصنع الوطنية” توصلت إلى أن المصنع يتسبب في انبعاث ملوثات خطرة، تشمل ثاني أكسيد الكربون، أول أكسيد الكربون، ثاني أكسيد الكبريت، وأكاسيد النيتروجين، نتيجة احتراق الفحم الحجري بكثافة. وأكدت الدراسة أن المصنع لا يملك أي منظومة حديثة لرصد أو تقليل الانبعاثات.
اختبارات ميدانية شملت 11 عينة تربة و8 عينات نباتات من محيط المصنع، أظهرت تركّزًا خطيرًا لعناصر سامة مثل الكادميوم والرصاص بمستويات تتجاوز المسموح به دوليًا بـ 24 ضعفًا. كما بيّنت الدراسة أن أكثر الفئات تضررًا هم الأطفال بنسبة 33%، تليهم النساء وكبار السن بنسبة 28% لكل منهما.
وعلى المستوى الزراعي، سجل مكتب الزراعة في المسيمير تراجع الإنتاج بنسبة 60% منذ بدء تشغيل المصنع. وأكد مدير المكتب عبد الحبيب محمود صالح أن رماد وغبار الفحم تسبب في نفوق ما بين 1500 و2000 رأس ماشية، إلى جانب انهيار واسع في تربية النحل. المواطن عبدالله محسن أفاد بفقدان 50 خلية نحل و75% من أغنامه خلال عام واحد فقط.
وثائق داخلية حصل عليها الفريق تظهر أن محطة الفحم تستهلك نحو 111 كجم من الفحم لكل طن كلنكر، وهو معدل مرتفع جدًا مقارنة بالمعايير البيئية الصناعية. وتشير بيانات فنية إلى أن المصنع يطلق انبعاثات لأكاسيد النيتروجين تصل إلى 428 ملغ/م³، متجاوزًا الحد الأوروبي البالغ 200 ملغ/م³ بنسبة تصل إلى 250%.
رغم خطورة المؤشرات، لم تتخذ السلطات أي إجراءات رقابية جادة. لجنة بيئية شُكلت في نوفمبر 2021 لم تصدر أي نتائج علنية حتى الآن، فيما امتنعت إدارة المصنع عن الرد على استفسارات “سوث24″، رغم وعود سابقة بالرد.
التحقيق أشار إلى غياب تام لأنظمة ترشيح الغازات أو محطات معالجة مياه الصرف في المصنع، ما يعزز احتمالات تسرب الملوثات إلى التربة والموارد المائية، بما في ذلك الآبار والمجاري المائية القريبة من التجمعات السكانية.
ويُتوقع أن تثير نتائج هذا التحقيق ردود فعل في الأوساط الحكومية والرقابية، وسط مطالب شعبية متزايدة بمراجعة وضع المصنع وإخضاعه لتقييم بيئي مستقل. كما تطرح القضية تساؤلات حول مدى التزام المؤسسات الصناعية في اليمن بالمعايير البيئية، وقدرة الجهات المعنية على فرض رقابة فاعلة لحماية السكان من الآثار الضارة.
وحتى لحظة نشر هذا التقرير، لم تصدر السلطات المحلية أو إدارة المصنع أي توضيحات رسمية بشأن المزاعم المثارة، في حين يستمر القلق بين السكان في ظل غياب إجراءات احترازية عاجلة، ما يجعل الوضع مفتوحًا على مزيد من التدهور الصحي والبيئي.